الملخص:
بسم الله الرحمن الرحیم وإیّاه نستعین
إنّه لتبیین مستقبل العالم برأي الإسلام لابدّ من الالتفات إلی أصول الرؤیة الکونیة من نظرة إسلامیة. فمن هذا المنطلق نشیر إلی بعض من قواعد الرؤیة الکونیة الکلیة في مکتب الدین کي یتبیّن نتائجها وینقدح لنا النظم الجدید للعالم بشکل أوضح؛ وکذا في تأسیسه ارتکِز السعيُ البلیغ حتّی لا یتوهّم الاستکبار العالمي وهماً خیالیاً.
القاعدة الأولی: إنّ نظام الخلقة کان مستهدفاً فلم یشُبه أيّ بطلان وأيّ عبث؛ [کما قال تعالی]:«وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا»؛(ص/27)؛ وغایة کلّ شيء هو الکمال المناسب له؛ وإنّ کمال عالم الخلقة الوجوديّ إنّما هو النیل إلی أفضل مقام في العالم، وکذا الخلاص من النقص النسبيّ، والعیب القیاسيّ، والوصول إلی التمامة والسلامة.
عدم سنخیّة الظلم مع عالم الخلقة وتضادّه مع غایة الخلقة
القاعدة الثانیة: إنّ الظلم باعتباره سمّاً مُهلکاً والذي لم یتلائم مع جهاز عالم الخلقة الهضميّ فیکون موجباً لدماره حینئذ، وبما أنّه لم یتلائم مع النظام الداخليّ لعالم الخلقة فیکون متضادّاً مع غایة الخلقة، فیکون مانعاً من الوصول إلی الغایة أیضاً؛[کما قال تعالی]؛«ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ»؛(الروم/41)؛ و[نظیر قوله سبحانه]؛«وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ»؛(المؤمنون/71).
القاعدة الثالثة: إنّ الإنسان مخلوق ممتاز فإنّه خُلق بغایة خاصّة ولم یکن خلقه عبثاً؛ وإنّ العبث لم یدخل إلی حریم الخلقة قطّ فإنّه غیر باطل وغیر سدی [کما قال سبحانه]؛«أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى»؛(القیامة/36)؛ و[إشارة إلی الآیة الکریمة]؛«أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ»؛(المؤمنون/115).
القاعدة الرابعة: إنّ الظلم والتعدّي علی الآخرین بما أنّهما من اللهب النوراني الذي لم یتلائم مع کمال الإنسان یکونان مانعین عن وصوله إلی غایة الخلقة دائماً، وإنّه من دون الاجتناب عن أيّ ظلمّ فرديّ أو جمعيّ؛ سواءاً کان علی نحو الاستبداد، أو الاستثمار، أو الاستعمار الذي یکون جامعاً لأضلاع هذا المثلّث المشوم فلا یتسنّی الاستعباد والاسترقاق حینئذ.
القاعدة الخامسة: إنّ حیاة الإنسان حیاة جمعیة؛ سواءاً کان للمجتمع وجود مستقلّ عن وجود الأفراد -وهو قول بعض-؛ أو لم یکن له وجود منحاز ومستقلّ بل یکون وجوده نفس حیثیّة کلّ فرد الاجتماعیة التي خُلقت مع حیثیّة کلّ فرد الفردیّة -کما أنّه قول بعض آخر-؛ إذن لابدّ أن یبحث عن صلاح کلّ فرد في ضمن صلاح حیاة مجتمعه الجمعیة؛ حیث إنّه وإن أمکن أن یعیش أحد بصفاء في مجتمع ملوّث، أو یعیش آخر في مجتمع طاهر ثمّ یبتلي بالتلوّث إلّا أنّه لا یمکن إصدار حکم کلّي جامع بناءاً علی هذه الموارد النادرة.
القاعدة السادسة: إنّه یستحیل تأمین حیاة المجتمع الجمعیة من دون وجود نظام حکومي؛ بمعنی أنّه لو لم یکن هناك قانون واحد، وقیادة واحدة، ولم یقبل المجتمع کلّه القانونَ الجامع والقیادة الواحدة؛ فإمّا تتعذّر الحیاة الاجتماعیة وإمّا لم یصل إلی الکمال المطلوب حینئذ؛ وکما أنّ تعدّد القوانین مانع من استقرار نظام حکوميّ فتعدّد القیادات موجب لتحقّق المثاليّ في النظام الحکوميّ وإن کان بالشوری.
حاجة المجتمع إلی القانون والقائد الورع
القاعدة السابعة: إنّ تدوین قانون جامع من قِبل شخص معیّن أو فئة خاصة لم یکن ضامناً لمصالح جمیع أقسام المجتمع وکلّ أنواع الجوامع أبداً؛ حیث إنّ کلّ شخص أو فئة یبتغون مصلحة أنفسهم، وإن لم یکن کذلك فقد یعجزون عن تشخیص مصالح الآخرین ومفاسدهم؛ نظیر قیادة شخص ذي وجهة اجتماعیة یعدم تأییداً من الله تعالی، أو لم یکن وارثاً للمکتب الإلهيّ علی النحو الصحیح فإنّه لم یکن ضامناً لمصالح جمیع الناس، بل إنّه یرجح في الإنتماءات السیاسیة والأزمات الاجتماعیة مصالح طبقة خاصة علی مصالح الآخرین؛ فلابدّ من وجود توفّر الرکینین السیاسیین والاجتماعیین الأصیلین؛ وهما: الأول: القانون الحرّ؛ والثاني: القائد الحرّ، فأمّا القانون الحرّ المنزّة من کلّ خطأ أو تبعیض غیر عادل فهو قانون الله تعالی؛ وأمّا القائد الحرّ إنّما هو الإنسان الورع التقيّ الذي حرّر نفسه من المیول، والروابط، والإیذاء فأصبح حرّاً من جمیع الجهات.
القاعدة الثامنة: إنّ عالم الخلقة لم یشهد نظاماً حکومیاً عالیاً إلی یومنا هذا، وإنّ المجتمعات البشریة لم تنل المجتمع المثاليّ إلی الآن؛ بمعنی أنّه لم یصل إلی الغایة من خلقته، وإن أضحی من مشی في طریق الحقّ ضحایا کثیرة ووصل بعض الطبقات الخاصة إلی قمّة الإیثار فبلغوا الکمال غیر أنّهم لم تتحقّق الغایة من الخلقة بعدُ.
نعم؛ إنّهم قد هیّئوا الأرضیة المناسبة للغایة النهائیة؛ فامتثلوا ما بعثهم الله تعالی إلیه من هذه الجهة.
القاعدة التاسعة: إنّ الإسلام یعد تجاه الأصول المذکورة أنّه ستکون الحکومة علی وجه الأرض وسعتها والسلطة علی الزمان المستقبل بید الأتقیاء الورعین الأحرار من کلّ رذیلة؛ حتّی ینتهي جور الظالمین وکذا تتطهر الأرض من دمار الطغاة وفسادهم، وتنجو الطبقة المحرومة من الفقر أیضاً، وبها یقضی علی عبادة بطون المترفین؛[کما أشار سبحانه إلی هذا بقوله]؛«وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»؛(القصص/5)؛ و[قوله عزّ وجلّ]؛«...أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ».
القاعدة العاشرة: إنّ برنامج حکومة الصالحین إنّما هو إحیاء الأرض والأرضیة المظلومتین وإنقاذهما من کلّ تعدّ وطغیان، وکذا إصلاحهما بملئها قسطاً وعدلاً؛ وحیث إنّ أهمّ أسباب النجاة من سلطة الشیطان واستعباد الهوی إنّما هو بإنشاء روح العبودیة لله تعالی في الفرد والمجتمع؛ فإنّ الإسلام یرسم لنا وظیفة الصالحین الذین یرثون الأرض أنّها:«الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ»؛(الحجّ/41).
وعلیه؛ إنّ نتیجة الرؤیة الإلهیة إلی عالم الخلقة إنّما هو حسن الظنّ بالمستقبل، والقیام أمام کلّ ظلم، والتمهید للصلح العالمي، والاعتقاد بغایة البشر العلیا، والنجاة من کلّ یأس، والاستقامة تجاه تطوّرات الأسلحة النوویة وحروب النجوم، والثبات وقضاء العمر بانتظار المصلح الحرّ العالميّ، وعدم التخلّي عن کلّ إیثار وتضحیة بعد ظهوره، والقیام بالجهاد والاجتهاد تمهیداً لحکومة ذلك الإنسان الکامل الذي هو خلیفة الله تعالی في الأرض، وتحلیة ذوائق الفقراء والضعفاء من الخلق بحلاوة انهدام أرباب الجور وسقوط الطغاة الکانزین للذهب والأموال، وإرضاء خالق العالم بتعدیل النظام البشري أیضاً.
فالنأمل جمیعاً ذلك الیوم الکریم، ولنعش بانتظار ظفر العدل علی الظلم واهتزاز رایة القسط علی سطح کلّ عمارة ومرتفع کلّ دار.
والحمد لله ربّ العالمین
الجواديّ الآمليّ